التفاؤل والتشاؤم بين الصحة ونقيضها
بما ان الحياة تقوم في بنيانها على الشئ ونقيضه،وبنفس الوقت يتعادل التوازن في التناقض،فالليل يعقبه النهار،ووجود الشمس يقابل نقيضها في الظلام،ووجود تأثير البيئة لا يلغي قوة تأثير الوراثة،ووجود الخير يتزامن مع وجود الشر، ووجود الذكر مقابل الانثى،ووجود اللاعنف والمسالمة وسلوك التسامح مقابل العنف والكره والسلوك العدواني،وتحدثت فلسفات الشرق القديمة في اسيا وخصوصا الفلسفات الصينية والهندية واخرى نشأت في اليابان وتايلاند،تدور معظمها عن فلسفة الاختلاف والتوافق ومنها فكرة فلسفة(اليونغ يانغ)،فالحياة تقوم على وجود الشئ ونقيضه او ضده ليجتمعان في اطار واحد،وعلى هذا الاساس فأن الاضداد دائماً تكون في رموز مختلفة ولكن هذا الاختلاف فيها يكون مكملاً للاخر حتى وان كان نقيضه وابرز التكامل هو ما نجده بين الموجب والسالب وبين الفاعل والمفعول به وبين الذكر والانثى،وبين الليل والنهار وبين الخير والشر ولكن يبقى اكثر الرموز تناقضاً وتباعداً ثم تقارباً هو شعار مهنة الصيدلة الشهير في كل العالم حيث نجد الثعبان(في الحقيقة يمكن ان يقابل ما هو موجب ومذكر وفاعل)ينفث ســـمه(الذي هو في الوقت ذاته شفاء)في الكأس(وهو ان يقابل ما هو سلبي ومؤنث ومفعول به).والسم القاتل هو نفسه الدواء الشافي،ولا نجافي الحقيقة كثيراً اذا ما اتفقنا مع قول الشاعر الشهير ابو نؤاس"وداوني بالتي كانت هي الداء".وحديثنا الذي سنتناول به التفاؤل مقابل التشاؤم وهو بداية الطريق للغور في تفسير السمتين التفاؤل والتشاؤم من خلال معرفة وجود الشئ ونقيضه،اي معرفة الشئ وضده، وهي سابقة علمية لمعرفة ما يدور في انفسنا او حولنا في العالم الخارجي،وعليه اننا نعيش لكي ندرك ان الشئ لايوجد الا مع ضده،ومن ثم يمكن قبول الانسان لحقيقة ان الشئ وضده موجودان بداخله،فكما هو الحق يوجد الباطل وكما هو التفاؤل يوجد التشاؤم،ولكن غلبة احدهما على الاخر يعطي الارجحية في سلوك الفرد وتعامله،ولكن لا يمكننا نفي الآخر نفياً قاطعاً،والا لما اخرج السم من الثعبان لعلاج المرضى،ومن خلال التفاؤل والتشاؤم يمكن القول ان تتوازن الحياة ولدينا امثلة كثيرة يمكن ان نضعها على المحك،اولها اننا نتقبل الآخر المرن اكثر من المتشدد والمتصلب،ونحن ايضاً نعترف بالدور الفاعل لايجابية المتفاءل اكثر من المتشاءم،فهو يمنحنا القدرة على رؤية الامور بشكل معتدل ومتفتح،وخاصة اذا كنا نعيش في عصرنا الحالي،عصر الضغوط والقلق والازمات والكوارث المفاجئة بشكل يومي،وتحيط بنا الفضائيات حتى في غرف النوم،تحاصرنا لتنقل لنا كل مساوئ الحضارة في عالمنا المعاصر،بينما في الكثير من الاحيان تغض الطرف عن مسرات كثيرة،لا ندري هل بات الامر به من التشاؤم اكثر من التفاؤل ام كثرة الازمات الانسانية والكوارث والهتنا عن رؤية الجميل..انها نظرة متشائمة ،اليس كذلك؟
يقول علماء النفس علينا ان ندرك جيداً ولا نبالغ كثيرا في التفاؤل او التشاؤم رغم ان ميزان التفاؤل يشير الى نتيجة واضحة لصالح التفاؤل ولكن تبقى المواقف واللحظات الحاسمة في حياة الانسان او المجتمعات هي الحكم الفصل،ومن هذا المؤشر يجدر بالناس ان لاتبالغ في التفاؤل كثيراً حتى لا يصبح التفاؤل متطرفاً يعرض صاحبه للنكسات عندما لاتتحقق الامنيات،او لا يبالغ الناس في التشاؤم كثيراً حتى تصبح الحياة متشائمة متطرفة.
ان قدرة الانسان قديما وحديثا تكمن في امكانيته على التوازن الديناميكي بين التفاؤل والتشاؤم فهما كالمد والجزر في البحر على الدوام ومثل الليل والنهار في الصيف والشتاء،تارة طويل وتارة اخرى قصير وافضلهما المعتدل فليس كل فصول السنة شتاء او صيف،وليس كل مناخ السنة متطرف في الحرارة او البرودة،وكل ذلك يعتمد على المزاج الشخصي للفرد ومدى تقبله وقد اثبتت الدراسات النفسية ان من الصفات الرئيسة للمتشائمين اعتقادهم ان الاحداث السيئة ستستمر طويلاً وتدمر كل شئ في حياتهم وانها تنبع بالاصل بسبب اخطائهم وذنوبهم،اما حين يواجه المتفائلون نفس الظروف السيئة فأنهم يدركونها بشكل مختلف تماماً،انهم يرون ان الفشل ليس سوى اخفاق آني عارض وان اسبابه كامنة في الموقف ذاته،انهم غير ميالين الى ان يشعروا بالذنب تجاه اي فشل،وينسبون الاسباب غالباً الى ظروف غير مناسبة،او الى مجرد الصدفة او الى تصرفات الاخرين،لاتؤثر المتاعب كثيراً على همم المتفائلين،وهم حين يواجهونها ويتعاملون معها على انها مواقف تحد،فيحاولون بذل مزيد من الجهد ليحققوا ما يصبون اليه،كما عبر عن ذلك
د.مطاع بركات
لا نبالغ كثيراً ان قلنا ان الفرد هو المسؤول عن رؤيته لامور الحياة بصورة سلبية تشاؤمية او ايجابية تفاؤلية،فاسلوب التفكير وطريقة التعامل مع احداث الحياة،هي المفتاح الذي بوساطتها يستطيع الناس ايجاد حلول ناجعة لتلك المواقف الحياتية.لقد اثبتت تجارب العديد من الناس ان ذوو التفكير التشاؤمي يحملون هموم الدنيا كلها وهموم الاخرين حتى نشاهدهم يهرمون بسرعة وتنهشهم نوبات الاكتئاب والافكار السوداوية،بينما المتفائلون يهرمون ببطء وتكون شكواهم اقل من غيرهم،وربما تكون اعمارهم اطول وحيويتهم اكثر،حتى مجرى التفكير يكون لديهم اقل تدهوراً من الاخرين.ان البحث في دقائق الامور والمبالغة في الدقة في التنفيذ والمتابعة والاجراءات حتى اخر خطوة فيها يمكن ان تنعكس على شخصية الفرد القائم بذلك العمل ونمط شخصيته يحدد مستوى تفكيره،فالدراسات النفسية اشارت الى ان الاشخاص ذوي التفكير التشاؤمي يعاملون الهفوات البسيطة في الحياة اليومية وفي الحالات الاعتيادية،على انها اخطاء مدمرة تماماً،ويتحملون تبعاتها في حياتهم وينتابهم شعور بتأنيب الضمير،ويتحرون عن الذنوب والآثام ويلصقونها بانفسهم ويصفون انفسهم في بعض الاحيان بانهم فاشلون لا يستحقون العيش،وهي رؤية اكتئابية قد تقود صاحبها بمرور الوقت الى القناعة بانهاء حياته بالانتحار، ونحن اذ نقول من مدخل ارشادي لتعديل السلوك والاتجاهات بأن الشخص الذي لا يشعر بالالم ومرارة الفشل ولحظات المراجعة مع الذات،لا يشعر باللذة وحلاوة النجاح وهو يحتاج في كلا الموقفين الى مراجعة الذات،وان الصحة النفسية ليست انعدام الالم في حد ذاته ولكنها تشمل ايضا القدرة على تقبله،فكما هو الليل سيأتي النهار حتماً،وكما هو الرجل-الانثى،حتما سيكمل كل منهما الاخر،وكما هو التفاؤل ،سيمر الانسان بمواقف بها من التشاؤم فليست كلها نجاح تلك الحياة بمسيرتها وليست كلها فشل وخيبات أمل ،ويبقى الفرد هو الحَكم على قدرته في ضبط سلوكه الذاتي ازاء المواقف الحياتية المختلفة وهو الذي يختار اساليب التعامل التي تخفف من وطأة وشدة ضغوط التفاؤل لحد الاعتدال وتخفف من وطأة وشدة التشاؤم لتحوله الى الوسطية والاعتدال ايضاً وبالتالي فأنه من المستحيل ان يكون هناك تفاؤل مطلق،او تشاؤم مطلق
No comments:
Post a Comment